الذهب الاحتياطي: استراتيجيات البنوك المركزية لتقوية احتياطياتها

في ظل تزايد الاضطرابات الاقتصادية العالمية وتصاعد التوترات الجيوسياسية، أعلن مجلس الذهب العالمي عن تحول استراتيجي ملحوظ في توجهات البنوك المركزية حول العالم، يتمثل في زيادة الاعتماد على الذهب كأصل احتياطي، بالتزامن مع تقليل الحيازات من الدولار الأمريكي.

يعكس هذا الاتجاه المتصاعد وعيًا متزايدًا لدى صانعي القرار المالي العالمي بأهمية الذهب كأداة فعالة للتحوط ضد المخاطر المالية والتضخم والتغيرات السياسية والاقتصادية غير المتوقعة، خاصة في ظل بيئة عالمية أصبحت أقل استقرارًا.

زيادة غير مسبوقة في الإقبال على الذهب

وفقًا لأحدث استطلاع سنوي أجراه مجلس الذهب العالمي في يونيو 2025، والذي شمل بنوكًا مركزية من اقتصادات متقدمة وناشئة، فإن 95% من المشاركين يتوقعون تعزيز احتياطياتهم من الذهب خلال الاثني عشر شهرًا المقبلة، وهو أعلى مستوى منذ بدء إصدار هذا الاستطلاع قبل ثماني سنوات.

للمرة الأولى منذ جائحة كورونا، أبدى 7% من البنوك المركزية نيتهم زيادة التخزين المحلي للذهب، مما يدل على تزايد أهمية هذا الأصل في استراتيجيات الدول المالية.

وعلى المدى المتوسط، توقعت 76% من البنوك المركزية أن تواصل زيادة احتياطياتها من الذهب خلال السنوات الخمس المقبلة، مقارنة بـ69% فقط في استطلاع 2024. بينما أظهر حوالي ثلاثة أرباع المشاركين رغبتهم في خفض احتياطياتهم من الدولار الأمريكي، مما يعكس زيادة عن نسبة 62% المسجلة في العام الماضي.

يشير هذا التحول إلى إعادة تشكيل الثقة العالمية في العملات الاحتياطية، وتراجع هيمنة الدولار بشكل تدريجي في عصر يعتبره البعض “عصر التعدد القطبي المالي”.

دوافع القرار: الفائدة، التضخم، الجيوسياسية

أشار 93% من المشاركين إلى أن معدلات أسعار الفائدة تبقى العامل الأهم في اتخاذ قرارات إدارة الاحتياطيات، في حين أن التضخم والتوترات الجيوسياسية تزداد أهمية بسرعة.

• في الأسواق الناشئة، أعرب 84% عن قلقهم من التضخم، مقابل 67% فقط في الاقتصادات المتقدمة.

• كما اعتبرت 81% من بنوك الأسواق الناشئة التوترات الجيوسياسية عاملاً حاسمًا في قراراتهم، مقارنة بـ60% من البنوك المتقدمة.

• بينما اعتبرت 59% من المشاركين النزاعات التجارية والرسوم الجمركية عنصرًا مؤثرًا، وبرزت الفروق بين الأسواق الناشئة (69%) والاقتصادات المتقدمة (40%).

أشار التقرير إلى أن البنوك المركزية حول العالم قد ضاعفت مشترياتها السنوية من الذهب، متجاوزةً حاجز 1000 طن متري سنويًا خلال السنوات الثلاث الماضية، مقارنة بمعدل يتراوح بين 400 و500 طن فقط خلال العقد السابق. يعكس ذلك إدراكًا متزايدًا لأهمية تنويع الأصول الاحتياطية والتحوط ضد تقلبات السوق.

مصر في قلب المشهد: نمو كبير في احتياطي الذهب

في هذا السياق العالمي، تبرز مصر كمثال بارز في تحقيق هذه الاستراتيجية، حيث شهد الرصيد من الذهب ضمن الاحتياطي الأجنبي لدى البنك المركزي المصري نموًا ملحوظًا خلال الأشهر الخمسة الأولى من عام 2025.

• ارتفع الرصيد بمقدار 3.04 مليارات دولار، مسجلاً نسبة نمو بلغت 28.5% ليصل إلى 13.679 مليار دولار بنهاية مايو 2025، مقارنة بـ10.644 مليار دولار في نهاية ديسمبر 2024.

• كما زاد الاحتياطي بنحو 50 مليون دولار خلال مايو مقارنة بالشهر السابق.

أظهرت بيانات البنك المركزي أن احتياطي الذهب:

• ارتفع خلال الربع الأول من 2025 بنحو 1.96 مليار دولار (نمو بنسبة 18.4%).

• بلغ في فبراير 11.851 مليار دولار، بزيادة 755 مليون دولار عن يناير.

• بينما زاد في يناير بمقدار 772 مليون دولار مقارنة بنهاية 2024.

ومن الجدير بالذكر أن رصيد الذهب المصري قد حقق قفزة بنسبة 26.11% خلال عام 2024، مرتفعًا من 8.440 مليارات دولار في ديسمبر 2023 إلى 10.644 مليارات دولار بنهاية نفس العام، مما يعكس التزام القاهرة الاستراتيجي طويل الأمد بتعزيز استقرارها النقدي.

ما وراء الذهب

توضح هذه الأرقام والتحليلات أن الذهب تجاوز كونه مجرد ملاذ تقليدي، ليصبح محورًا رئيسيًا في تصميم السياسات النقدية العالمية، خاصة في ظل تزايد هشاشة النظام المالي العالمي.

فإن التحول من الدولار إلى الذهب في البنوك المركزية لا يعكس فقط تغيرًا في التفضيلات الاستثمارية، بل يشير إلى تغيير جيواقتصادي شامل يُعيد صياغة مفاهيم الأمان المالي، ويفتح المجال أمام نظام احتياطي عالمي متعدد الأقطاب.

مع استمرار النزاعات التجارية واضطراب الأسواق وزيادة الديون، يبدو أن العصر القادم سيكون “ذهبيًا” بمعناه الحرفي.