نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
من "طبل الصفيح" إلى "ما ينبغي أن يُقال": إرث غونتر غراس بعد عقدٍ على الرحيل - تواصل نيوز, اليوم السبت 7 يونيو 2025 02:34 مساءً
تواصل نيوز - في نيسان/أبريل 2015، انطفأ صوت أحد أكثر الكتّاب الألمان إلحاحاً وإزعاجاً للذاكرة الوطنية، غونتر غراس (1927–2015)، الذي ظلّ طوال حياته يسائل التاريخ، لا لينبشه وحسب، بل ليُحاكمه بالأدب. بعد مرور عقد على رحيله، لا تزال سيرته تثير جدلاً أخلاقياً وأدبياً، بين من يرى فيه "ضمير ألمانيا" وبين من يراه شاهداً مأزوماً على ما لم يقدر على مقاومته يوماً.
ولد غراس في مدينة دانتسيغ، التي أصبحت لاحقاً غدانسك البولندية بعد الحرب العالمية الثانية، لأسرة متواضعة من الطبقة العاملة. كغيره من أبناء جيله، سُحق تحت عجلات التاريخ مبكراً؛ ففي سن السابعة عشرة، جُنّد في صفوف قوات الـSS، وهي التجربة التي ظلّ صامتاً عنها لعقود، حتى اعترف بها في سيرته الذاتية "تقشير البصلة" (2006) ، ما فجر عاصفة من النقد. كيف يمكن لمن كان جزءاً من آلة الموت النازية أن يكون "ضمير أمة"؟ لكن ذلك السؤال لم يكن إلا امتداداً لما ظلّ يكتبه غراس طوال حياته: سؤال الذنب، والتواطؤ، وصمت الأغلبية.
طبل الصفيح
لم يكن الاعتراف لحظة سقوط، بل تتويج لمسيرة فكرية وأدبية اتخذت من الألم وسيلة للقول، ومن التشوه الداخلي مادة للخلق. غراس، الذي درس النحت والفنون الجميلة في دوسلدورف وبرلين بين عامي 1947 و1956، بدأ حياته كفنان بصري، لكن الكلمة أغوته أكثر من الحجر. في عام 1959، صدر عمله الأبرز:"طبل الصفيح"، الذي ما زال حتى اليوم يعدّ من أعظم روايات القرن العشرين.
متوّجاً بجائزة نوبل للآداب عام 1999.
بطل الرواية، أوسكار ماتسيراث، طفل يتوقف عن النمو في سن الثالثة احتجاجاً على الانهيار الأخلاقي لمجتمعه. بقرع طبله المعدني وصرخاته الخارقة، يكشف أوسكار زيف الواقع، ويسخر من كل شيء: العائلة، الكنيسة، الجيش والدولة. عبر هذا التكوين الرمزي للبطولة، رسم غراس صورة جديدة للبطل الحديث: لا بطلاً نبيلاً، بل كائن مشوّه ، حادّ الوعي، ورافض للتواطؤ حتى بثمن العزلة. وقد كتب الناقد الأدبي مارسيل رايش-رانيكي أن "طبل الصفيح كانت صفعة على وجه الجمهورية الفيدرالية".
معركة مستمرة مع الذات والعالم
لم تكن هذه الصفعة يتيمة، بل جاءت ضمن ثلاثية دانتسيغ، التي شملت أيضاً "القط والفأر" (1961) و"سنوات الكلاب" (1963)، إذ واصل غراس نبش الجراح، لا من باب التأريخ، بل من موقع الإنسان المشارك في الكارثة. هو لا يكتب عن النازية من الخارج، بل من الداخل، بوصفه أحد أبناء جيلها الذين "سكتوا حين وجب الكلام، وانحنوا حين وجب الرفض"، على حد تعبيره. ولهذا، لم يكن "أدب الضمير" عند غراس مقاماً أخلاقياً، بل معركة مستمرة مع الذات، بلغة ساخرة، وغالباً جارحة.
في العقود اللاحقة، واصل غراس التجريب والمساءلة، عبر أعمال مثل "الفأرة 1986"و"مئويتي" (1999) و"مشية السرطان" (2002) التي أعادت قراءة أحداث القرن العشرين من زوايا غير مألوفة، رافضاً الاصطفاف السهل، ومنحازاً إلى الهامش والضحايا الصامتين. وفي "مشية السرطان" تحديداً، استعاد مأساة السفينة الألمانية "فيلهلم غوستلوف"، غارزاً قلمه في تربة محرّمة: ضحايا الحرب الألمان. لم يكن هذا تعاطفاً مع الجلاد، بل مساءلة لتقسيمات الذاكرة نفسها، تلك التي تحتكر الحزن وتوزّعه بحسب الهوية.
القصيدة القنبلة
لكن غراس لم يكن مجرد روائي؛ كان مثقفاً عضوياً بالمعنى الغرامشي للكلمة. انخرط في دعم الحزب الديموقراطي الاجتماعي، وكتب خطابات لحملاته، ووقف ضد إعادة تسليح ألمانيا، وساهم في تقاربها مع بولندا، وواجه حملةً شرسة عام 2012 بعد نشره قصيدة نثرية بعنوان "ما ينبغي أن يُقال" انتقد فيها السياسات النووية الإسرائيلية، وهاجم صمت الغرب على التحضيرات الإسرائيلية لضرب إيران، رافضاً أن يُستخدم ماضي ألمانيا ذريعةً للصمت الأبدي.

خلال مناقشة في الجمعية العامة لأعضاء المركز الألماني لنادي القلم الدولي عام 1969.
كانت القصيدة سبباً في منعه من دخول إسرائيل، واتهامه بمعاداة السامية من صحف مثل "دي فيلت" و"دير شبيغل"، على رغم أنه شدد على أن هدفه هو التوازن الأخلاقي، لا إنكار الجرائم النازية. ومع ذلك، دخل غراس المنطقة الأخلاقية الرمادية، حيث يصبح الشاهد متهماً، وحيث كلّ تذكير بالتاريخ يصبح تهديداً للسرديات الرسمية.
وعلى رغم أن جيله من الكتّاب الكبار – كهاينرش بول، كريستا فولف، وزيباستيان هافنر – قد رحل أو صمت، مازال إرثه يثير الجدل بين الكتّاب الألمان الشباب. فبعضهم يرى فيه نموذجاً للمثقف النبوي الذي لا يهادن، بينما يعتبره آخرون رمزاً ثقيل الظل لعصرٍ أدبي تجاوزته الحداثة السائلة، خصوصاً مع أسلوبه الكثيف وجمله الطويلة، التي قد تبدو منفّرة لجيل يبحث عن الإيجاز والوضوح.
وختاماً، يبقى تأثير غراس حياً في مجالات عدة، من الأدب اللاتيني الأميركي (حيث يُقارن بأسلوب غابرييل غارثيا ماركيز في المزج بين الواقع والغرائبية)، إلى الدراسات الأكاديمية. ففي دراسة نشرتها مجلة The German Quarterly عام 2016، وُصفت رواياته بأنها "مرآة أخلاقية لعصر ما بعد الذنب، قادرة على كشف التواطؤ القومي من خلال أدوات التخييل".
اليوم، بعد عشر سنوات على رحيله، تبدو أعمال غراس أقل رواجاً تجارياً، لكنها أكثر راهنية من أي وقت مضى، في عالم تتصاعد فيه النزعات القومية، وتُختصر فيه الوقائع في شعارات. إنه كاتب لا يُقرأ للمتعة فقط، بل لمساءلة النفس. وربما هذا هو سبب صعوبة إعادة إنتاجه أو استنساخه: فغراس لم يكن مدرسة أدبية، بل موقف وجودي.
في إحدى مقابلاته، قال: "نحن لا نقشر البصلة لنصل إلى القلب، بل لنصل إلى الدموع الأخيرة"، ربما كانت هذه العبارة تلخيصاً لمجمل مشروعه، حيث الكتابة ليست احتفاء بالحقيقة، بل مواجهة معها، وحيث الأدب لا يطلب الراحة، بل اليقظة. وإذا كان الزمن قد يميل إلى نسيان من يزعجه، فإن غونتر غراس سيظل أحد أولئك الذين كَتبوا لا ليُحبّوا، بل ليُسمَعوا.
0 تعليق