يوسف طراد... حين يكتب الفلاح وجع الوطن - تواصل نيوز

النشرة (لبنان) 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
يوسف طراد... حين يكتب الفلاح وجع الوطن - تواصل نيوز, اليوم الأربعاء 4 يونيو 2025 11:22 صباحاً

تواصل نيوز - فاروق غانم خداج – كاتب لبناني وباحث في الأدب والفكر الإنساني

من برحليون إلى كل زاوية حنين في هذا الوطن، يمضي يوسف طراد كمن يوقظ الذاكرة بحبر القلب. ليس مجرد كاتب، ولا فقط مسعفاً حمل حقائب الحرب بلغة الدم والعطر، بل هو شاهد من لحم وتراب، نفض عن الجراح غبار النسيان وسكبها على الورق، لا كحكاية فقط، بل كمرآة تعكس هشاشتنا وجبروتنا، وخوفنا من الحب والموت.

لم يعبر يوسف طراد الحرب كعابر سبيل، بل حملها في دمه كما يحمل القلب سرّه. لم يكن متفرّجاً على النار، بل كان بين لهبها يضمد جراح الجنود ويكتب ما لا يُقال. كانت الحرب له تجربة وجودية، تمزّق الكائن من داخله وتدفعه إلى الكتابة لا للتأريخ، بل للنجاة من الغرق في الصمت. لم يكتب عنها ليحكي بطولات، بل ليقول الحقيقة كما هي: موتٌ يتكرر، وذاكرة تتألم، وأملٌ صغير ينبت في الرماد.

في كتابه "عطر ودماء" لا نقرأ رواية تقليدية، بل اعترافًا موجعًا من مسعفٍ كان يضمّد الجراح بيد، ويحمل قلبه المرتجف في اليد الأخرى. كتب عن الجنود الذين يقاتلون ولا يعرفون لماذا، عن الأحبّة الذين يُغتالون بالمصادفة، عن لحظةٍ يتحوّل فيها الإنسان إلى مجرد رقم. ومع ذلك، لم يكن طراد مراسلاً للحرب، بل شاعراً في ساحة المعركة، يكتب ليقاوم الصمت ويؤرّخ الوجع بصوتٍ خافت.

أما في كتابه "قراءات فلاح"، فنكتشف طراداً آخر، يزرع المعاني كما يُزرع القمح، ويحفر في الكلمة كما يحفر الفلاح في الأرض. ليس كتابًا نقديًا فحسب، بل حواراً داخلياً بين رجلٍ يعرف الألم، وكاتبٍ لا ينفصل عن التجربة. وكأنه يهمس لنا: من لم يعرف الألم، لا يحق له أن يكتب عن الحياة.

هذا الإيمان لم يفارقه، بل رافقه في الكلمة والموقف. لم ينكفئ إلى العزلة، بل انخرط في المشهد الثقافي اللبناني، وخصوصاً عبر نادي الكتاب اللبناني، حيث تحوّل حضوره الهادئ إلى نَفَسٍ يُحيي اللقاءات، ويمنحها معنى يتجاوز الكتب إلى المصالحة بين المختلفين. لم يكن مجرد عضو، بل وجدان حيّ يُعيد للثقافة دورها كقاسم مشترك بين أبناء الوطن.

إنّ هذا الدور لا يقلّ أهمية عن مؤلفاته، بل يكملها. فالرجل الذي كتب عن النزف والمسامحة، هو نفسه الذي لا يزال يسعى لبناء الجسور بين اللبنانيين بالكلمة الطيبة، والنية الصافية، والإيمان العميق بأن الثقافة قد لا تغيّر العالم، لكنها تغيّر القلوب القادرة على تغييره.

من هنا نفهم لماذا نال يوسف طراد الجوائز والتكريمات، محليًا وعربيًا. لقد كتب من صميم التجربة، لا من الهامش، وسكب من ذاته في كل حرف، لا ليُقال عنه إنه كتب، بل ليُضيء فينا ما نظنّه منطفئاً.

يوسف طراد هو ابن الشمال، ابن برحليون التي تشبه الحلم الريفي الصافي. لكنه، في الجوهر، ابن لبنان كلّه. ابن الشوف كما هو ابن جبل عامل، وابن كل بيتٍ ارتجف لوقع القذائف. قرأت في كلماته تراب دير القمر حين يتبلّل بالحنين، وعنفوان بعقلين حين تعاند الريح. وقرأت فيه البيوت التي لم تُغلق رغم الحرب، والقلوب التي تصالحت دون ضجيج.

أحييك من أرضٍ ترتجف كلما مرّ بها طيف شهيد. من الشوف، حيث تكون الكتابة فعل بقاء. أحييك كأخٍ لم تلده أمي، وككاتبٍ يجعلني أؤمن أن الأدب ما يزال قادراً على إنقاذ أرواحنا، ولو مرة واحدة.

يوسف طراد... لا يصرخ في كتاباته، بل يهمس. لا يبيع المآسي، بل يصوغها بشرف. لا يدّعي النبوّة الأدبية، بل يمشي على التراب، متّكئاً على صدقه. كتب ليعيش، لا ليُعجب. ولذلك نحترمه ونحبّه.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق