نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
مسرحُ المدينةِ وشهودُ النفي - تواصل نيوز, اليوم الأربعاء 4 يونيو 2025 10:05 صباحاً
تأمل في محاكمة سقراط ، وحكاية الأسئلة حين تُحاكمُ في كلِّ زمان.
في كل مدينةٍ مهما علت حضارتها، يبقى المسرح الأعظم ليس حين تُقدم العروض، بل حين تُقدّمُ القرابين ذبيحةً. إنَّها قرابين الفكر، وحرية الضمير، وحق السؤال.
في أثينا التي أنجبت الفلسفة والديمقراطية، اصطفَ الناسُ لا لمشاهدة تراجيديا مسرحيِّة، بل لمحاكمةِ مُفكرٍ سلاحه الكلمة، وذنبه أنّه سأل أكثر ممّا ينبغي.
كانتِ القاعةُ عامرةً، والجمهور حاضراً، والمسرح معدّاً بدقةٍ، وارتدى الادّعاءُ قناع المأساة.
سُئلَ سقراط عن إفساد عقول الشباب، إنكار آلهة المدينة، وعن غروره الفلسفي الذي لم يَخفَ على القضاة ولا على العامة. لكنه لم يُنكر، لم يعتذر، ولم يُساوم على مبادئه، بل وقف كما اعتاد ان يعيش حُراً داخل ذاته، لا يرتجف لا يستعطف، بل رفض أن يأتي بشهود نفي. قالها صريحةً: "القاضي لا يمنح العدالة، بل يحكم بها". كأنه أراد أن تكون محاكمته درساً لا قضية، اختباراً للمجتمع لا محاكمة فرد.
مع ذلك فلنجرب لعبة الخيال
ولو أن سقراط قبل منطق المحاكمة، ووقف في قاعة تُشبه قاعاتنا اليوم تُعطى فيها الكلمة لشهود النفي فمن كان سيشهد له؟ من كان سيقف بوجه التُهم لا بالحجةِ فقط بل بالشهادة الحيِّة؟
١- شاهد نفي أول (أفلاطون): تلميذه، لم يُسمح له بالكلام، لكنه كان هناك، جالساً في ردهةِ المحكمة ينحت وجه معلّمه في ذاكرته كما يُنحتُ تمثالٌ خالد بإتقان. أفلاطون الذي سيحمل فكر سقراط في محاوراته لم يدافع عن الرجل فقط بل عن جوهر الفلسفة ذاتها، وما كتبه كان أعظم من الشهادة. كان الخلود عينه.
٢- شاهد نفي ثانٍ: الضمير
ذاك الصوت الذي لم يتخلَّ عنه سقراط، والذي من اجله رفض العمل في السياسة، رفض أن يُعلّم لقاء مالٍ، ورفض أن يكذب لينجو. كان الضمير هو قاضيه الحقيقي، وهو من برّأهُ من داخله حتى يتجرّع الكأس التي اختارها بوعي.
٣- شاهد نفي ثالث: الزمن
انقضت المحاكمة بينما ظل سقراط واقفاً في ذاكرةِ البشريِّة لا كمدانٍ، بل كقديسٍ للفكر، وكأول من علم العلم أن السؤال ليس جريمة إنما وحده الذي يُبصر.
لكن هل كانت شهاداتهم ستغير شيئاً؟
ربما لا.
فالمحكمة لم تكن تبحث عن الحقيقة، بل عن الهدوء. كانت تخشى الصخب النبيل الذي تحدثه الأسئلة حين تَهزُّ المسلمات.
لم يُقدّم سقراط شهود نفيٍّ لأنه أراد ان يكون هو نفسه الشاهد الأخير على أن الفلسفة ليست ترفاً بل المصير.
وفي واقعنا المعاصر، حيثُ تتبدل الأساليب وتتغير الساحات والمسارح تبقى محاكمة سقراط مرآة لنا.
كم من مرةٍ حُكم على الفكرة لأنها كانت مزعجة؟ وكم من مرةٍ سكت صوت السؤال خوفاً من الاضطراب؟
كم من سقراط في عصرنا يحمل سلاح السؤال يواجه محاكم لا بالضرورة في القاعات، بل في عقول وفي وسائل الإعلام وعلى منصات التواصل؟
كم من شهود نفي صامتين خائفين أو نادمين لأنهم لم يشهدوا للحقيقة عندما كان ذلك ممكناً؟
اليوم، وبعد قرونٍ، ونحن نقرأ محاكمته، لا نملك إلا أن نشعر أننا تأخرنا عن الجلسة… وأننا، نحن الذين نُفكّر ونتأمّل ونسأل، شهود نفيٍّ متأخرون، وما زلنا نقف عند باب المحكمة نحاول أن نقول: لم يكن مُذنباً، كان حيّاً أكثر مما تتحمل مدينة نائمة.
0 تعليق