في هذا المقال التحليلي، نسلط الضوء على التحولات العميقة في بنية الكيان الإسرائيلي، بدءًا من الانقسامات الاجتماعية والطائفية، وصولًا إلى الفشل في أدوات الردع، مما يكشف عن هشاشة المشروع الصهيوني أمام حروب الجيل الجديد. إن إسرائيل تواجه لأول مرة خطرًا جيوسياسيًا ممتدًا يتجاوز حدود الجغرافيا، ليصل إلى أعماق الداخل الذي يبدو أكثر خوفًا من أي تهديد خارجي.
لأول مرة، تخوض إسرائيل حربًا جيوسياسية تخطت حدودها الجغرافية، حيث يلجأ العديد من الحريديم من الجبهات إلى اليونان!
في مشهد يبرز مأزقًا وجوديًا يمتد لما هو أبعد من ساحات القتال، تتضح ملامح المأساة الإسرائيلية الحديثة، ليس وفقًا لعدد الصواريخ المنطلقة من غزة أو جنوب لبنان، بل من خلال تصدع البنية الداخلية لكيانٍ اعتمد نفسًا من التفوق العسكري وقدرته على فرض “السلام” عبر العنف. ومع ذلك، لم يعد هذا التفوق كافيًا لضمان الاستمرار، حيث تتآكل الأسس من الداخل، بينما تحاول القمة أن تبدو قوية.
منذ تأسيسها، لم تتخلَّ إسرائيل عن استخدام الحرب كأداة لإدارة الصراع، بل كمحاولة لإنهائه. واستبدالًا للسعي لحلول جذرية، قامت بترسيخ استراتيجيتها الأمنية على فكرة الردع وخلق فائض من القوة يجعل الهجوم عليها مكلفًا. ومع ذلك، لم يُسفر هذا الردع عن سلام، بل عن إعادة دورات متكررة من العنف تنتهي باتفاقات هدنة، بينما يبقى السؤال الأهم: إلى أين نسير؟ الفلسطينيون حاضرون، والعرب لا يغادرون، والجغرافيا لا تتغير.
لطالما روجت العقيدة الرسمية الإسرائيلية لمقولة “الحرب من أجل السلام”، إلا أن ما نتج هو صراع غير منتهي، وسلام لم يتحقق. الدول التي أرادت فرض نفسها من خلال القوة العسكرية على الساحة الإقليمية، فشلت في تحقيق السلام، بل خلقت هشاشة دائمة على الصعيدين الداخلي والخارجي. ومع كل موجة عنف، تتسع الفجوة بينها وبين حلفائها، وتتآكل صورتها حتى أمام الرأي العام الغربي.
من أبرز مظاهر التآكل الداخلي في إسرائيل، تبرز الطائفة الحريدية الأصولية التي باتت تشكل عبئًا على الدولة. فهي ترفض التجنيد العسكري، ولا تسهم في الإنتاج، لكنها تستهلك موارد الدولة عبر دعم حكومي واسع. وبرزت صورة هذا العبء خلال الأيام الأولى من القصف، عندما هرعت آلاف الأسر الحريدية مغادرة إسرائيل إلى قبرص واليونان، في مشهد أثار دهشة القيادات العسكرية. هذا الهروب الجماعي كشف عمق الأزمة الاجتماعية، وعكس زيف ادعاء “وحدة الجبهة الداخلية”.
قد تكون أخطر التحولات الاستراتيجية في الحرب الأخيرة هي دخول إسرائيل معركة مفتوحة مع خصم جيوسياسي بعيد يمتلك عمقًا استراتيجيًا ممتدًا من اليمن إلى العراق وسوريا ولبنان. إنها المرة الأولى التي تدخل فيها إسرائيل مواجهة مباشرة عبر آلاف الأميال، متجاوزة حدود الصراع التقليدي مع “العدو القريب”. هذا الخصم ليس مجرد مناور عسكري، بل يمتلك قدرات استنزاف طويلة الأمد، ولا يخضع لمنطق الضغط المباشر، مما أفقد نظام الردع الإسرائيلي فعاليته وأجبره على طلب الدعم المبكر من حليفه الأمريكي.
على الصعيد الداخلي، تتزايد الفجوة بين النخبة العسكرية والسياسية التي تتحكم بالقرار وجمهور قلق على المستقبل. فكل حرب تترك جراحًا أعمق من سابقاتها، وكل هدنة تحمل في طياتها بذور انفجار قادم. وها هي إسرائيل تدخل فترة من الفوضى المؤسساتية: عاجزة عن فرض حل نهائي، وغير راغبة في قبول تسوية عادلة. كما أن الحديث عن “إسرائيل الكبرى” لم يعد واقعيًا، بل تحول إلى مشروع يقود نحو نظام فصل عنصري أو تهجير قسري.
رهان إسرائيل على الدعم الأمريكي بدأ يتآكل. فالرأي العام الغربي أصبح أكثر وعيًا، والصورة النمطية للديمقراطية الإسرائيلية تصدعت بفعل المجازر والقصف العشوائي. لقد وجد الغرب السياسي، خصوصًا في أوروبا، نفسه مدافعًا عن قيم لم تعد تنطبق على ما تمارسه إسرائيل من انتهاكات منهجية. ولم يعد بإمكان أقوى الحلفاء تغطية الوجه البربري للصراع، أو تبرير تصرفات جيش تُصنَّف تقارير حقوقية في حقه على أنه من بين الأقل التزامًا بالمعايير الأخلاقية.
بينما لا يزال العقل العربي، الرسمي والشعبي، أسير فكر المعارك التقليدية وإحصاء الخسائر، دون إدراك لطبيعة الحروب الجديدة. فالحرب اليوم تُحسم في الوعي، في السرديات، وفي قدرة الخصم على إدارة صورته. إسرائيل تتعرض للانهيار من الداخل، لكنها تخفي فشلها من خلال آلة دعائية متقنة. ومع كل إعلان عن انتهاء حرب، يكون ذلك بداية لانفجار داخلي لا يمكننا رؤيته إلا بعد فوات الأوان.
تعليقات